كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وكذلك قال ابن عباس رضي اللّه عنه في قوله: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39)} [الرحمن: 39] قال: هو موطن لا يسألون فيه.
ومثله: {وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص: 78].
وقوله: {لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} [ق: 28] وقوله: {هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36)} [المرسلات: 35، 36]، وهو يقول في موضع آخر: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)} [الزمر: 31] ويقول: {هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} [البقرة: 111، والنمل: 64].
والجواب عن هذا كله نحو جوابنا الأول، لأنهم يختصمون ويدعي المظلومون على الظالمين، ففي تلك الحال يختصمون، فإذا وقع القصاص وثبت الحكم قيل لهم: لا تختصموا ولا تنطقوا، ولا تعتذروا، فليس ذلك بمغن عنكم ولا نافع لكم، فيخسؤون.
روى عبد الرزّاق عن معمر، عن قتادة: أن رجلا جاء إلى عكرمة فقال: أرأيت قول اللّه تعالى: {هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ}، وقوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} فقال: إنها مواقف، فأما موقف منها: فتكلموا واختصموا، ثم ختم اللّه على أفواههم فتكلّمت أيديهم وأرجلهم، فحينئذ لا يتكلمون.
وقوله: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (25)} [الطور: 25]، وهو يقول في موضع آخر: فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ [المؤمنون: 101]، فإنه إذا نفخ في الصور نفخة واحدة، تقطّعت الأرحام، وبطلت الأنساب، وشغلوا بأنفسهم عن التّسآل و{فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68]. فإذا نفخ فيه أخرى: قاموا ينظرون {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ} [الصافات: 27] وقالوا: {مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس: 52]. وهو معنى قول ابن عباس.
وقوله: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدادًا ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقال لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قالتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11)} [فصلت] فدلّت هذه الآيات على أنه خلق الأرض قبل السماء.
وقال في موضع آخر: {أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها} [النازعات: 27، 30].
فدلّت هذه الآية على أنه خلق السماء قبل الأرض.
وليس على كتاب اللّه تحريف الجاهلين، وغلط المتأوّلين. وإنما كان يجد الطاعن متعلّقا ومقالا لو قال: والأرض بعد ذلك خلقها أو ابتدأها أو أنشأها، وإنما قال:
دَحاها فابتدأ الخلق للأرض على ما في الآي الأول في يومين، ثم خلق السموات وكانت دخانا في يومين، ثم دحا بعد ذلك الأرض، أي بسطها ومدّها، وكانت ربوة مجتمعة، وأرساها بالجبال، وأنبت فيها النبات في يومين، فتلك ستة أيام سواء للسائلين، وهو معنى قول ابن عباس.
وقال مجاهد: بعد ذلك في هذا الموضع، بمعنى (مع ذلك)، و(مع) و(بعد) في كلام العرب سواء.
وقوله: {لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6)} [الغاشية: 6]، وهو يقول في موضع آخر: {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36)} [الحاقة: 35، 36]، فإن النار دركات، والجنة درجات، وعلى قدر الذنوب والحسنات تقع العقوبات والمثوبات، فمن أهل النار من طعامه الزّقّوم، ومنهم من طعامه غسلين، ومنهم من شرابه الحميم، ومنهم من شرابه الصّديد.
والضّريع: نبت يكون بالحجاز، يقال لرطبه: الشّبرق، لا يسمن ولا يشبع، قال امرؤ القيس:
فأتبعتهم طرفي وقد حال دونهم ** غوارب رمل ذي ألاء وشبرق

والعرب تصفه بذلك.
وغسلين: فعلين من غسلت، كأنه الغسالة، قال بعض المفسرين: هو ما يسيل من أجساد المعذّبين.
وهذا نحو قوله: {سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ} [إبراهيم: 50] وسرابيلهم من قطر آن قراءة عكرمة ومن تابعه.
والقطر: النّحاس. والآن: الذي قد بلغ منتهى حرّه. كأن قوما يسربلون هذا، وقوما يسربلون هذا، ويلبسون هذا تارة، وهذا تارة.
وأما قولهم: (كيف يكون في النار نبت وشجر، والنار تأكلهما؟) فإنه لم يرد فيما يرى أهل النظر- واللّه أعلم- أن الضريع بعينه ينبت في النار، ولا أنهم يأكلونه.
والضريع من أقوات الأنعام لا من أقوات الناس، وإذا وقعت فيه الإبل لم تشبع وهلكت هزلا.
قال الهذليّ يذكر إبلا وسوء مرعاها:
وحبسن في هزم الضريع فكلّها ** حدباء دامية اليدين حرود

فأراد أن هؤلاء قوم يقتاتون ما لا يشبعهم، وضرب الضريع لهم مثلا. أو يعذّبون بالجوع كما يعذب من قوته الضريع.
وكان ما أراد اللّه بهذا معلوما عندهم مفهوما، ولو لم يكن كذلك لأنكروه كما أنكروا قوله: {إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65)} [الصافات: 64، 65] وقالوا: كيف تكون في النار شجرة والنار تأكل الشجر؟
فأنزل اللّه: {وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القرآن} [الإسراء: 60]، يعني بالرؤيا: ما رآه ليلة أسري به وأخبر عنه، فارتد لذلك قوم، وزاد اللّه في بصائر قوم. وأراد بالشجرة الملعونة: شجرة الزّقّوم. فهذا وجه.
وقد يكون الضريع وشجرة الزّقّوم: نبتين من النار، أو من جوهر لا تأكله النار.
وكذلك سلاسل النار وأغلالها، وأنكالها وعقاربها وحيّاتها- لو كانت على ما نعلم، لم تبق على النار، وإنما دلّنا اللّه سبحانه على الغائب عنده بالحاضر عندنا، فالأسماء متفقة للدلالة، والمعاني مختلفة.
وما في الجنة من شجرها وثمرها وفرشها، وجميع آلاتها- على مثل ذلك.
قال ابن عباس: نخل الجنة، جذوعها من زمرّد أخضر، وكربها من ذهب أحمر، وسعفها كسوة لأهل الجنة، منها مقطّعاتهم وحللهم وتمرها أمثال القلال والدّلاء، أشدّ بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، وألين من الزبد، ليس له عجم.
وقوله: {وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] ثم قال على إثر ذلك: {وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} [الأنفال: 34] فإن النّضر بن الحارث قال: {اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] يريد أهلكنا ومحمدا ومن معه عامة. فأنزل اللّه تعالى: {وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] أي وفيهم قوم يستغفرون، يعني المسلمين.
يدلّك على ذلك قول اللّه تبارك وتعالى: {وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)} [الأنفال: 33]، ثم قال: {وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ خاصة وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [الأنفال: 34] يعني المسلمين، فعذّبهم اللّه بالسيف بعد خروج النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم عنهم، وفي ذلك نزلت: {سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1)} [المعارج: 1] أي دعا داع بعذاب واقع، يعني النضر بن الحارث {لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2)} [المعارج: 2] يقول: هو للكافرين خاصة دون المؤمنين، وهو معنى قول ابن عباس.
وقال (مجاهد) في قوله: {وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}: علم أن في أصلابهم من سيستغفر.
وأما قولهم: أين قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى من قوله فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ} [النساء: 3]، فهل شيء أشبه بشيء أليق به من أحد الكلامين بالآخر؟!.
والمعنى: أن اللّه تعالى قصر الرجال على أربع نسوة وحرّم عليهم أن ينكحوا أكثر منهن، لأنه لو أباح لهم أن ينكحوا من الحرائر ما أباح من ملك اليمن لم يستطيعوا العدل عليهن بالتّسوية بينهن، فقال لنا: فكما تخافون ألا تعدلوا بين اليتامى إذا كفلتموهم، فخافوا أيضا ألا تعدلوا بين النساء إذا نكحتموهن، فانكحوا اثنتين وثلاثا وأربعا، ولا تتجاوزوا ذلك فتعجزوا عن العدل.
ثم قال: فإن خفتم أيضا ألا تعدلوا بين الثلاث والأربع، فانكحوا واحدة، أو اقتصروا على ما ملكت أيمانكم من الإماء، ذلك أدنى ألا تعولوا، أي لا تجوروا وتميلوا.
وقال ابن عباس: قصر الرجال على أربع من أجل اليتامى.
يقول: لما كان النساء مكفولات بمنزلة اليتامى، وكان العدل على اليتامى شديدا على كافلهم- قصر الرجال على ما بين الواحدة إلى الأربع من النساء، ولم يطلق لهم ما فوق ذلك، لئلا يميلوا.
وقولهم: أين قوله: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِيامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ} من قوله: {ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المائدة: 97]؟
وتأويل هذا: أن أهل الجاهلية كانوا يتغاورون ويسفكون الدماء بغير حقها، ويأخذون الأموال بغير حلّها، ويخيفون السّبل، ويطلب الرجل منهم الثأر فيقتل غير قاتله، ويصيب غير الجاني عليه، ولا يبالي من كان بعد أن يراه كفأ لوليّه ويسمّيه: الثأر المنيم، وربما قتل أحدهم حميمه بحميمه.
قال ابن مضرّس وقتل خاله بأخيه:
بكت جزعا أمّي رميلة أن رأت دما ** من أخيها بالمهنّد باقيا

فقلت لها لا تجزعي إنّ طارقا خليلي ** الذي كان الخليل المصافيا

وما كنت لو أعطيت ألفي نجيبة ** وأولادها لغوا وستين راعيا

لأقبلها من طارق دون أن أرى ** دما من بني حصن على السيف جاريا

وما كان في عوف قتيل علمته ** ليوفيني من طارق غير خاليا

وربما أسرف في القتل فقتل بالواحد ثلاثة وأربعة وأكثر.
وقال الشاعر:
هم قتلوا منكم بظنّة واحد ** ثمانية ثم استمرّوا فأرتعوا

يقول: إنهم اتهموكم بقتل رجل منهم، فقتلوا منكم ثمانية به.
فجعل اللّه الكعبة البيت الحرام وما حولها من الحرم، والشهر الحرام، والهدي، والقلائد- قواما للناس. أي أمنا لهم، فكان الرجل إذا خاف على نفسه لجأ إلى الحرم فأمن. يقول اللّه جل وعز: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67].
وإذا دخل الشهر الحرام تقسّمتهم الرّحل، وتوزّعتهم النّخع، وانبسطوا في متاجرهم، وأمنوا على أموالهم وأنفسهم.
وإذا أهدى الرجل منهم هديا، أو قلّد بعيره من لحاء شجر الحرم- أمن كيف تصرّف وحيث سلك.
ولو ترك الناس على جاهليتهم وتغاورهم في كل موضع وكل شهر- لفسدت الأرض، وفني الناس، وتقطّعت السّبل، وبطلت المتاجر. ففعل اللّه ذلك لعلمه بما فيه من صلاح شؤونهم، وليعلموا كما علم ما فيه من الخير لهم- أنه يعلم أيضا ما في السّموات وما في الأرض من مصالح العباد ومرافقهم، وأنه بكل شيء عليم.
وقولهم: وأين قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ من قوله إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [لقمان: 31].
ولم يرد اللّه في هذا الموضع معنى الصبر والشكر خاصة، وإنما أراد: إن في ذلك لآيات لكل مؤمن. والصبر والشكر أفضل ما في المؤمن من خلال الخير، فذكره اللّه عز وجل في هذا الموضع بأفضل صفاته. وقال في موضع آخر: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)} [الحجر: 77]. وفي موضع آخر: {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 69] و{لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [النحل: 67] و{إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ} [الرعد: 19] يعني المؤمنين.